الاثنين، 19 ديسمبر 2011

خصلة شعر الحرير





إذا مـارأت عـيـني جـمالـك مـقـبلاً       وحـقـك يـا روحي سـكرت بـلا شرب
                                                                                                                 المتنبي


-


"انا بطبعي شامخاً، لا يهمني قصف الظروف، ولا مدافع المجتمع. اقضي حياتي ببساطة متكلفة، وبذخ متحفظ. مرت حياتي بمسار مستقيم ؛ لاتغيرات تذكر. روتين ثابت، اشخاص ثابتون، حتى المتغيرات ثابتة. ليلة ليست كباقي الليالي. ليلة غيرتني من كل النواحي. كنت تائهاً في قرية مهجورة. لا اعلم كيف وصلت، او ماذا اصنع. لكنه كأي حلم آخر. من بعيد، ارى خصلة شعر ممتدة من اسفل باب مغلق. دفعني الفضول الملعون لأتقصى مصدر خصلة شعر الحرير هذه. اخذت امشي بخطوات صغيرة، تكبر اكثر واكثر. اصبحت اهرول وانا ممسك بطرف خصلة الشعر. قلبي يزيد من رتم إيقاعه. ارى باب احمر في نهاية الممر. الرائحة جميلة جداً. ورد، هممم.. لا انها معجنات فرنسية. وكم اعشق المعجنات الفرنسية. وقفت امام الباب الأحمر لدقائق، عقلي يسحبني للخلف، وقلبي وجزء فارغ كبير من دماغي يدفعني للأمام. في لحظة ضعف فتحت الباب . . ."


"لا ارى سوى البياض. هل انا احلم؟ مالذي يحدث لي؟. الأسئلة تتوالد في رأسي بسرعة. نهضت. مهلاً، انه ليس بحلم. التفاصيل واضحة جداً، على عكس الأفلام. اخذت اتجول في المكان. الأرض بيضاء، والسماء بيضاء، وفي كل الإتجاهات بياض ناصع. (انه الباب الأحمر!) تذكرت آخر خطوة قمت بها قبل الدخول لهذا العالم الأبيض. رغم انها بيئة غريبة، الا اني لم افزع او ارتبك. الرائحة جميلة، جميلة جداً. اخذت اتجول، خطوة الى اليمين، وأخرى الى الشمال. البياض باقيٍ، لكني لم احس بدخول معزوفة موسيقية. أكملت خطواتي المتأرجحة، اتتبع مصدر الموسيقى. ارى بابً آخر من بعيد، بلونه الأخضر. تسارعت خطواتي، وصوت المعزوفة يتعالى. نظرت الى يدي اليمنى وإذا بخصلة شعر الحرير ممتدة على راحتها. كنت احملها كل هذه المسافة من دون ان اشعر. مصدر الخصلة اتٍ من الباب الأخضر. اخذت اهرول. هاهو الباب امامي، انتابني الخوف من السقوط في عالمٍ ابيض مماثل. لكن شغفي لمعرفة صاحبة خصلة الشعر الحريرية طغى. الى جانب ان المعزوفة كانت جميلة، احببت ان اتعرف على عازفها. مددت يدي اليسرى بحذر. امسكت بمقبض الباب وفتحته. خطوة صغيرة للأمام، انها واحة كبيرة جداً. ذهبت ركضاً، اضحك كأني تحت تأثير الكحوليات. ادور حول نفسي، ممسكاً بخصلة الشعر بالتأكيد. العالم الأخضر جميل جداً، بل ساحر. بدأت اقلب فكرة الهجرة للعالم الأخضر في رأسي، هنا سأبني بيتاً، هنا ألعب مع ابنائي كرة القدم. هنا اتسامر مع .. مهلاً! فتاة بجانب البحيرة؟! من اين اتت؟. رأيت الخصلة بيدي، رفعت رأسي وإذا بها تمتد الى الفتاة. اخذت امشي بخطوات متقاربة. عينيَّ مليئة بالتعجب والريبة. كانت الرائحة الجميلة، وخصلة الشعر، والمعزوفة الموسيقية مصدرها البحيرة.. بل الفتاة. وانا اقترب أكثر وأكثر، رأيت اشخاص اخرين. احسست بالراحة، اخيراً وجدت بشر. مجموعة من الرجال كانوا متجهين صوب الفتاة. وقفت من بعيد اراقب الموقف. اذا بهم يلتفون حولها، حاولت ان ارى ملامحها لكنني لم استطع. لم يهمني الأمر، فقد كنت مشغول بتخطيطاتي المستقبلية في العالم الأخضر. لم يقطع حبل افكاري سوى صرخة الفتاة. كانت تطلب النجدة! والرجال مازالوا يحيطون بها. ذهب مسرعاً اليها، اقتربت وإذا بالرجال يحدقون بي. رأيت وجه الفتاة، تفتحت حدقتي عيني، ماهذا الوجه الملائكي. كانت عيناها مليئة بالخوف والإنكسار. ما إن تقدمت خطوة، حتى ابتعدوا خطوة. تقدمت اكثر، ابتعدوا أكثر. حتى اصبحت امامها، ورحلوا. عيناها تفيض بالدموع، وإبتسامة إمتنان بالكاد ترتسم على وجهها. ساعدتها على النهوض. نهض الملاك بجناحيه، بقوامه القصير الممشوق. وشعر الحريري الطويل المنسدل على كتفيها. وذلك الوجه الخجول، الفم المكتنز والعينين السوداوين الواسعتين. وقف الزمان، وتجمد المكان. أصبح العالم الأخضر ساحرأ مسحوراً. وتنفجر الشموس، وتفيض الأنهار .. ويختبئ القمر خجلاً."


أنت النعيم لقلبي و العذاب له         فما أمرّك في قلبي و أحلاك
                                                                                                    المتنبي 


"عادت معي لعالمنا الحقيقي. أبتدئ صباحاتي على صوتها. ولا انام الا على ملامح وجهها الناعس. تتطاير الأيام كالبخار، وفي كل يوم تكون أجمل، وأشهى، وأقرب. كان الجزء الأروع في يومي عندما التقيها. انظر في عينيها، تنظر في عيني رغم الظلام. تتطاير الفراشات من حولنا، او على الأقل هذا ماكنت اراه. عندما اكون بجانبها يأتيني شعور قادم من مكان غريب، من غير هذا العالم. من كوكب فضائي، ربما. او ربما من مكان اقرب بقليل. من عالم النجوم، او اقرب، من شواطئ القمر. ملامح وجهها كباقة ورد، مرشوش بالسكّر الناعم. عندما لا اكون بجوارها عطرها يبقى في فمي، وعلى يدي وروحي. استنشق عطرها واغمض عيني، استنشق الفردوس المسحور. وانام. وأحلم بها"





ودعتـها لفـراقٍ فاشتكـت كبـدي      وشبكـت يدهـا من لوعـة بيـدي


"منتصف ليلة الخامس من ديسمبر. كنت احس بلوعة من صباح ذلك اليوم. تيقنت انه يوم اسود بعد ان داهمتها الحمى، جميلتي. لم اكن اعرف ان الحمى لم تكن نهاية النكسات. بل بدايتها. في تلك الليلة فاضت المحيطات، في تلك الليلة تساقطة النجوم، في تلك الليلة ابتعدت اصابعها من بين اصابعي، خرجت، خروج الروح من الجسد. إنها ليلة الفراق، مصير المحبين. ووجهة العشّاق. ذهبت وبقي مابقي مني. حطام، بل فتات. لن أسأل كيف اختفت، لمذا، وأين. ما اعرفه اني سأذكر ايامنا المعدودة الحالمة. وخصلت شعرها الحريري على فراشي . .


. . وعطرها، سأتمسك بمفعوله، حتى الممات."








Reezo!

هناك 5 تعليقات:

  1. آبدآع بمعنى آلكلمه سوآ كآن حلم آو وآقع آنت آبدعت بكتآبته , جدن آستمتعت بقرآءته, صحيح آنو مآلي بآلآدب بس من تعبيرك تخيلت آلمشهد و حسيت فيه , آلله يوفقك و آستمر . . xo

    ردحذف
  2. شكراً لجين. كلامك راح يدفعني لأكثر من كذا.

    ردحذف
  3. مقطوعة رائعة تنم عن مكنون لغوي وثقافي عميق, كلماتك تعكس شخصيةرائعة يكتنزها جسدك الصغير عمرا المتوقّد شبابا بعقل لايخيب نضارة في الرأي وحكمة, هيت لك عزيز اذهلنا باكثر!
    مهند!

    ردحذف
  4. كأنّي بـ مقطوعتك .. سفينةً، نقلتني إلى عالمٍ من البياض، كالذي أبدعت في وصفه، عالمٌ خياليّ، لا يقطن به إلا الجمال!
    شكراً على هذا البذخ، عزيز!

    ردحذف
  5. مهند، يزيد. اراء من كتّاب رائعين مثلكم يكون مفعولها مضاغف. شكراً لكم

    ردحذف